يرصد هذا النص صورة مألوفة في البيوت، حيث يمسك طفل لا يتجاوز الثالثة هاتفًا ذكيًا بيدين صغيرتين وتلمع شاشة ملونة بالحركة. يحدق في الشاشة بينما تمر المقاطع بسرعة وتنفذ أصابعه تمريرها واحدًا تلو الآخر. يبقى فمه عاجزًا عن تركيب جملة من كلمتين وهو يتلقى العالم عبر خطوط من الضوء وصدى صوتي محدود. لا يتكلم الطفل كما يحدث حين تتواصل العائلة وجهًا لوجه.
يظهر المشهد في ظاهره هدوءًا مريحًا للأهل، فطفل هادئ لا يبكي ولا يلح في الطلبات، والبيت يستعيد لحظات من الصمت. لكن وراء هذا الهدوء تختبئ مأساة لغوية صامتة: تأخر النطق وكسل اللسان وعزلة عن لغة البشر لصالح لغة الشاشات. يتعلم اللغة حين يطيل النظر في ملامح من يحب، ويراقب حركة الشفاه ويرتشف نبرة الصوت ويستمع للضحك والتعجب والانفعال. يتخلل التفاعل بينه وبين الأسرة فراغ حواري يعيق نمو الكلام.
الأثر اللغوي للشاشات
الطفل لا يتعلم الكلام من الضوء، بل من الوجوه، وتولد الحروف الأولى من فم الأم التي تنادي، ومن فم الأب الذي يحاور، وفي ضحكة الجدة التي تكرر السؤال. يتعلم اللغة حين يطيل النظر في ملامح من يحب، ويراقب حركة الشفاه ويرتشف نبرة الصوت ويستمع للضحك والتعجب والانفعال. يحاول بخجل جميل أن يقلد هذا العالم من الأصوات وتتشكل لديه باكورة الكلمات في سياق حوار حي. تتحول الحروف إلى تجربة تواصل حقيقي يساعده على النطق حين يجد من يشاركه الحديث.
عندما يدخل الهاتف بين الطفل والعالم، يبدأ هذا الجسر في التآكل ببطء: تتحول ساعات اليوم من وقت للحديث واللعب والقصص إلى ساعات مشاهدة صامتة بلا حوار. يظل الطفل مجرد متلقٍ لا سائل ومرئي بلا مشاركة حقيقية. تتراكم الأصوات من المقاطع وتُفقد في أذن صغيرة وقت التفكير والسؤال. في هذه البيئة يصبح التفاعل البشري النادر هو ما يعوّض فقدان الحوار.
مسؤولية الأسرة والتوازن
لا يقتصر الخطر على كثرة المشاهدة وحدها، فالهاتف يمنح الطفل لغة أحادية الاتجاه؛ شاشة تتكلم وطفل يسمع بلا رد. في الحياة اليومية يلاحظ الأب أو الأم نداءً مثل: هات الكرة، فيلتفت الطفل ويرد ويتفاعل وتتحول الجملة إلى تجربة حية تشمل السمع والفهم والحركة والاستجابة. أما أمام الهاتف فتمر الجملة كإشارة صوتية بلا انتظار لرد أو نظر في العين، ولا يظل هناك حوار يسهم في بناء ذاكرة لغوية. إن هذا النمط من التواصل يفرض روتينًا يبتعد بالطفل عن لغة البشر ويقلل من فرصه في الإبداع اللغوي.
يتسع الخطر ليشمل تشويش الانتباه: المقاطع السريعة تقفز من مشهد إلى آخر وتعود الدماغ على وتيرة لا تشبه الإيقاع الطبيعي للكلام. كما أن مقاطع الفيديو القصيرة تقدم متعة فورية وتستبدل الجهد الذهني بالمتعة اللحظية، ما يجعل الصبر على سرد قصة أو شرح بسيط أمرًا صعبًا. مع طول الفترة أمام الشاشة تتضاءل فرص الطفل في المشاركة في حوار طويل وتطوير مهارات الاستماع. وهذا التراكم يؤخر اكتشاف المشكلة ويزيد من الصعوبة المرتبطة بالتدخل المبكر.
بدائل عملية وتدخل مبكر
تظهر البدائل العملية عندما يلتزم الوالدان بقيود واقعية على وقت الهاتف وتخصيص فواصل للحديث مع الطفل. تخصص عشر دقائق يوميًا للحكي مع الطفل: يحكي الوالدان قصة بسيطة، يطرحان أسئلة، ويستمعان لإجابات الطفل ويفهمان ما يقول. تعزز لعبة تسمية الأشياء في المطبخ أو غرفة النوم مفرداته وتساعده على تسمية الأشياء من حوله. يمكن تقليد أصوات الحيوانات والسيارات لبناء قاموس صوتي ممتع، وعند الجلوس على الأرض بجوار الطفل وتبادل الحوار بلغة بسيطة تتطور ثقة الطفل في الكلام.
عندما يظهر تأخر في الكلام أو علامات العزلة، تصبح زيارة أخصائي التخاطب خطوة مهمة لحماية المستقبل. يشرح الاختصاصي خطة عمل لتعزيز النطق داخل المنزل وتحويل اللعب إلى علاج تعليمي يومي. يوضح أيضًا أن الإخصائيين لا يقدمون حلاً سحريًا بل يستمدون من الأسرة بيئة داعمة. يؤكد على إشراك جميع أفراد العائلة وتوحيد الجهود في تعزيز التفاعل الكلامي.
خلاصة وتوجيهات عملية
تتطلب الأزمة إعادة ترتيب الأولويات: الوجه البشري والحديث مع الطفل لهما الأولوية على الصوت والضجيج الرقمي. يبقى الهاتف جزءًا من الحياة، لكن بحجم محدود وتحت إشراف الكبار وخلال أوقات محددة ومحتوى مختار. ليس الهدف تعطيل التقنية بل التوازن مع النمو اللغوي والاجتماعي للطفل. يجب أن يحكي الطفل قصته ويضحك بنبرة عالية ويطرح أسئلة كي يبقى العالم أقرب إليه من شاشة بعيدة.


