تُعدّ الذئبة الحمراء من أبرز أمراض المناعة الذاتية غموضاً وتعقيداً، وتلقب بـ«مرض الألف وجه» لأنها تختبئ خلف طيف واسع من الأعراض تتفاوت في الظاهر وتتمايز في الحقيقة كإشارات مبكرة لخلل مناعي يهاجم الجسم نفسه. وتؤثر على ملايين الناس حول العالم، وتُقدَّر أعداد المصابين بأمراض المناعة الذاتية في الولايات المتحدة بنحو خمسين مليون شخص وحدها. وتضم هذه العائلة أمراض مثل الذئبة والتصلّب اللويحي والروماتويد والسكري من النوع الأول ومتلازمة شوغرن وغيرها. وتبرز قصة مريضة أميركية اسمها روث ويلسون كمرآة لهذه المعاناة؛ فقد تنقلَت بين الأطباء لست سنوات بحثاً عن تشخيص صحيح، وتفاقمت آلامها وارتفاع حرارتها وتورم مفاصلها دون تفسير.
خلال إحدى زياراتها إلى غرفة الطوارئ كادت تعود إلى المنزل بلا تشخيص، لكنها أصرّت على فحص أخير كشف أن كليتيها تقتربان من الفشل وأن جهازها المناعي يهاجم أعضاءها الحيوية بشكل صامت. وكانت تلك اللحظة فاصلة في حياتها، إذ بدأ الفريق الطبي يفهم حجم الخلل المناعي وتفاقم الأعراض بسرعة. تعكس قصة ويلسون، وغيرها من الحالات، وجهاً من الحقيقة المؤلمة أن المرض قد يختبئ وراء أعراض متفرقة ويُشخَّص متأخراً، فيما يستمر بتدمير الأنسجة والأعضاء.
نافذة أمل
الاختراق الأكبر جاء من تقنية CAR-T التي أحدثت ثورة في علاج السرطان، وبدأت تدخل عالم المناعة الذاتية. في ألمانيا، تلقّى أول مريض بالذئبة هذا العلاج عام 2021، وهو يعيش منذ ذلك الحين بحالة شفاء دون أدوية وفقاً للباحثين. وتُشير التقارير إلى أن النتائج الأولية تبعث على الأمل وتفتح باباً لتوسيع استخدام هذه التقنية في أمراض المناعة الذاتية.
وتشير عشرات التجارب السريرية حول العالم إلى نتائج مبشّرة في الذئبة والروماتويد وأمراض أخرى عبر استخدام خلايا مناعية معدّلة تستهدف الخلايا الشاذة التي تشعل المرض. كما برز دواء تيبليزوماب بقدرته على تأخير ظهور السكري من النوع الأول لدى المعرضين للإصابة، وهو ما اعتبره المعهد الوطني للصحة الأميركي اختراقاً طبياً حقيقياً، ويصفه الدكتور أميت ساكسينا من مركز لانغون بأنه أكثر إثارة في تاريخ أبحاث المناعة الذاتية. وتفتح هذه النتائج آفاق جديدة لعلاجات دقيقة ربما تقلل الاعتماد على الأدوية التقليدية.
لماذا يهاجم جهاز المناعة نفسه؟
تكشف الدراسات أن الذئبة ليست نتيجة عامل واحد بل مزيجاً معقداً من العوامل الوراثية الحيوية والبيئية. يشير التقدير إلى أن النساء يمثلن نحو 90% من حالات الذئبة، وتتزايد المخاطر مع الإجهاد المناعي والتعرض المفرط للشمس. كما ترتبط إحدى الخيوط البحثية بنوع من الخلايا المناعية يُسمّى العدلات، وتلعب أدواراً مركبة في استجابة الجسم للمناعة. وفي مختبر المعهد الوطني للصحة في واشنطن اكتشف العلماء أن بعض هذه الخلايا تنتج شبكات لزجة تعرف بـ NETs تفسر ارتفاع مخاطر الالتهابات والتجلط في المرضى الشباب.
يُعتقد أن هذه العملية هي الشرارة الأولى للمرض، كما تُظهر الأبحاث أن الذئبة ليست مرضاً واحداً بل مجموعة أمراض متشابهة ظاهرياً لكنها تختلف في جذورها، ما يفتح الطريق أمام العلاجات الدقيقة المصممة لكل مريض. وبين الألم والأمل تستمر الأبحاث في التقدم، مع عزم العلماء على تحويل التاريخ الطبي للمرض من خلال فهم أعمق للجذور الدموية للجسم. وتزداد الثقة بأن النتائج الحديثة ستقود إلى تشخيص أبكر وعلاج أكثر فاعلية.


