اليقين: محور خطبة الجمعة 26 سبتمبر 2025

مفهوم اليقين ودرجاته
يتبوّأ اليقين منزلة كبيرة في الإسلام، فهو شعبةٌ عظيمةٌ من شعب الإيمان وصفةٌ من صفات أهلِ التقوى والإحسانِ، وهو العلمُ التامُّ الذي لا يشوبه شكٌّ، وبه يتحرَّكُ العبدُ إلى العملِ الصالحِ. يقولُ الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله: لا يتمُّ صلاحُ العبدِ في الدارينِ إلا باليقينِ والعافيةِ، فاليقينُ يدفعُ عن العبدِ عقوباتِ الآخرةِ، والعافيةُ تدفعُ عنه أمراضَ الدنيا من قلبِه وبَدَنهِ. كما قالَ أبو بكرِ الوراقُ رحمه الله: اليقينُ ملاكُ القلبِ، وباليقينِ عُرِفَ اللهُ، وبالعقلِ عُقِلَ عنِ اللهِ. ولذا أمرَنا رسولُ اللهِ ﷺ بالدعاءِ باليقينِ والمعافاةِ فقال: سلوا اللهَ المعافاةَ فإنَّهُ لم يُؤتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيرًا من المعافاةِ. يذكرُ القرآنُ الكريمُ أن اليقينَ درجاتٌ ثلاثةٌ: علمُ اليقينِ، عينُ اليقينِ، وحقُّ اليقينِ. العلمُ يقينٌ بأن الموتَ والبعثَ والحسابَ والجنةَ والنارِ حقٌّ، والعينُ اليقينِ رؤيةُ ذلك أمامَك بالعينِ المجردة، وحقُّ اليقينِ أن تُجَرِّبَ ذلك بنفسِك. هذه الدرجاتُ وردتْ في آياتٍ من القرآنِ، فمثلاً قولُه تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}، ولقولهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}، ووقولهِ: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}.
ولو ضربنا مثالًا توضيحيًّا من واقعِ الحياةِ، فإن أحدَهم قال لكَ: إن فاكهةَ العنبِ موجودة في السوقِ. هذه هي الدرجةُ الأولى من اليقينِ، فلو رأيتَ العنبَ في السوقِ فقد بلغتَ الدرجةَ الثانيةِ وهي عينُ اليقينِ، وإنْ اشتريْتَ وذقتَ قِطْفًا من العنبِ فقد وصلتَ إلى الدرجةِ العليا وهي حقُّ اليقينِ. وكلما ارتقيتَ من درجةٍ إلى أخرى ازدادَ يقينُكَ، فليس الخبرُ كالمعاينةِ، وليست المعاينةُ كالتجربةِ. ولهذا سعى الخليلُ إبراهيمُ عليه السلامُ إلى رؤيةِ ذلك أمامَهُ ليزدادَ اطمئنانُ قلبِهِ بالإيمانِ، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}، قالَ اللهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، فَخُذْ أَرْبَعَةً مِمَّا الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا. فهذه القصةُ توضِّحُ أن إبراهيمَ عليهِ السلامَ سعى إلى أعلى درجات اليقينِ، فأعطاهُ اللهُ الدرجةَ الثالثةَ بعدَ أنْ طلبَ المعاينةَ.
وقالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ أن إبراهيمَ لم يكن يشكُّ في قدرةِ اللهِ، وإنما أرادَ المعاينةَ ليزدادَ اطمئنانُ قلبِه، وتأكيدُ اليقينِ بالمشاهدةِ، بينما اللهُ الكريمُ قالَ لهُ: إنَّ الدرجةَ الثانيةِ وهي العينُ والمشاهَدةُ قد تُعطى لبعضِ العابدينَ، وأعطاهُ هوُ الدرجةَ الثالثةَ وهي حقُّ اليقينِ والتجربةُ. وهذا يعنِي أن الخليلَ يسعى إلى أعلى درجاتِ اليقينِ وهو الاطمئنانُ القلبيُّ، فيجبُ علينا نحن المسلمون أن نجتهدَ في سُبلِ رفعِ درجاتِ اليقينِ بنصيبِ من الالتزامِ بأوامرِ اللهِ واجتنابِ ما نَهاهُ عنهُ.
وعن أنبياءِ اللهِ، يظهرُ اليقينُ في حياتِهم كلها، كما كانَ موسى عليه السلام حينما أحاطَ فرعونُ وجنودُهُ بالبحرِ أمامَهُ، فخافَ أتباعُهُ وظنُّوا أنَّنا مُدْرَكُونَ، فقال موسى بلسانِ اليقينِ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ففتحَ اللهُ البحرَ ونصرَهم. وفي الغارِ حينَ أحاطَ المشركونَ برسولِ اللهِ ﷺ وصاحبهِ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهُ، قالَ الصدّيقُ: لا تَحْزَنْ إن اللهَ مَعَنَا، فاطمأنَّ قلبُهُ وظهرتِ المعجزةُ. ومن أمثلةِ اليقينِ أيضًا سعدُ بنُ أبي وقاصٍ يومَ القادسيةِ حينَ قطعوا الجسرَ وخالَفَ الفرسُ أنْ لا يمكنَ عبورَ النهرِ، فكان قولُه: حسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ، فاجتازوا النهرَ بخيلِهم ورجالِهم، فكان ذلكَ من كرامةِ أهلِ اليقينِ. كما روى تاريخُ الطبري أن خالدَ بنِ الوليدٍ رضي اللهُ عنهُ شربَ من السَّمِّ وهو يقولُ باسمِ اللهِ، فكانَ كرامةً وشجاعةً. وللزهداءِ والصالحينَ أمثلةٌ كحاتم الأصمِّ وحيوة بنُ شريحٍ وغيرهما، حيثُ اتَّسعَ اليقينُ في قلوبهم فؤمنوا بأن اللهَ يُعَوِّضُ العبدَ عن ماَ فَقَدَهُ ويُعْدُهُ بالعطاءِ، وبالتوكيدِ على الثقةِ باللهِ واليقينِ في الرزقِ. وهكذا كان أهلُ اليقينِ يَسْلُكونَ في الدنيا بثقةٍ وتواضعٍ، وليسَ في قلوبهم خوفٌ من الفقرِ أو المستقبلِ، بل لديهمَ يقينٌ بأن اللهَ تعالى يوفِّقُهم.
وهكذا يَصِفُ القرآنُ والسنةُ أن اليقينَ ركيزةٌ مهمةٌ في حياةِ المؤمنينَ، يَظهرُ بأعمالهم وثباتهم وصبرهم، فلا يقعونَ في الشركِ أو المعاصي أو الإلحادِ، بل يَحفظونَ قلبَهم من الشبهاتِ عبرَ التدبرِ في آياتِ اللهِ وتغذيتِهِ بتقوى اللهِ.
وسائلُ تثبيتِ اليقينِ في القلب
تدبرُ آياتِ القرآنِ الكريمِ من أعظمِ وسائلِ ترسيخِ اليقينِ، فاللهُ يقولُ: هذا بصائرُ للناسِ وهُدى ورحمةٌ لقومٍ يُوقِنونَ، وقَدْ بيَّنَّا الآياتِ لقومٍ يوقِنونَ، وكانوا بِآياتنا يُوقِنونَ. كما يتبيَّنُ من تدبرِ الآياتِ الكونيةِ في الأرضِ والسماءِ أنَّ اللهَ لها آياتٌ للموقِّنينَ، وأنهُ في قصصِ الأنبياءِ تثبيتٌ لقلوبِ المؤمنينَ وتذكيرٌ لهم بقدرةِ اللهِ وتوحيدِهِ. قراءةُ قصصِ الأنبياءِ تقوي اليقينَ وتُثبِّتُ القلبَ، فكما وردَ في القرآنِ الكريمِ: وكلًّا نقصُّ عليكَ من أنباءِ الرسلِ ما نثبتُ بهِ فؤادكَ وجاءكَ في هذهِ الحقِّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين. كما ينبغي أن يبتعدَ المؤمنُ عن مجاورةِ الملحدينَ والمتشككينَ ومواقعِهم حتى لا تعتريه الشُّبهاتُ وتُغزوهُ الشكوكُ، فاللهُ تعالى قد حذرَ من جلوسِ المؤمنينَ معَ هؤلاء عندَ حديثِهم في أمورِ الدينِ. والدعاءُ من وسائلِ اليقينِ، فقد كانَ رسولُ اللهِ ﷺ يدعو: اللَّهُمَّ اَقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعاصِيكَ، وَمِنْ طاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ رَحْمَتَكَ، وَمِنَ اليقينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا. كما أن الصبرَ والثباتُ عندَ المصائبِ والابتلاءاتِ من عواملِ اليقينِ، فالمؤمنُ إذا صبرَ وشكرَ عندَ الرخاءِ وبَحرَ الصِّدِّيقُ يَثبتُ على اليقينِ ويَزدادُ إيمانُهُ. قالَ صهيبٌ رضي اللهُ عنهُ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: عجَبًا لأمرِ المؤمنِ إن أمرَهُ كلهُ خيرٌ، وإن أصابتهُ سراءُ شكرَ فكانَ خيرًا لهُ، وإن أصابتهُ ضرَّاءُ صَبرَ فكانَ خيرًا لهُ. فهذهِ الأحاديثُ تبيِّنُ أن اليقينَ يعززُ الثباتَ والصبرَ والشكرَ ويدفعُ المؤمنَ إلى الاستقامةِ في الدينِ والدنيا.
نسألُ اللهَ أنْ يرزقَنا إيمانًا كاملاً، ويقينًا صادقًا، وأنْ يحفظَ مصرَ من كلِّ مكروهٍ وسوءٍ.