في قلب الغموض
اكتشف العلماء أخيراً السر وراء القوة الغامضة للثقوب السوداء، فليس الاعتماد فقط على دورانها هو السبب، بل تكشف ظاهرة تعرف بإعادة الاتصال المغناطيسي التي تولّد طاقة هائلة تقذفها النفثات عبر آلاف السنين الضوئية. هذه النتائج تغيّر فهمنا لكيفية عمل الثقوب السوداء ودورها في تشكيل المجرات المحيطة بها.
يقع M87* في مجرة العذراء على بعد 55 مليون سنة ضوئية، وهو من أضخم الثقوب السوداء بكتلة تقارب ستة مليارات ونصف مليار كتلة شمسية. ورغم جاذبيته الهائلة، يحفّز نفثاً من المادة يمتد عبر آلاف السنين الضوئية بسرعة تقارب الضوء، وهو أمر يثير التساؤل: كيف يمكن لكتلة تمتص الضوء أن تطلق طاقة بهذا الشكل؟
في الماضي اعتُمد تفسير بلاندفورد–زنايك الذي يرى أن الحقول المغناطيسية المحيطة بثقب أسود دوّار يمكنها استخراج جزء من طاقته وتحويلها إلى إشعاع ونفثات، لكن هذه الآلية لم تُفسر كل خصائص النفثات فبعضها كان أكثر شدة وتسارعاً مما توقعته المحاكاة سابقاً.
الانفجار الخفي
استهل الفريق الألماني البحث باستخدام أداة حاسوبية أطلقوا عليها FPIC، وهي شيفرة فرانكفورت للجسيمات في الخلية لزمكان الثقب الأسود، وتتيح تمثيل سلوك الجسيمات المشحونة والمجالات قرب أفق الحدث بدقة غير مسبوقة.
عبر المحاكاة لاحظ الباحثون أن خطوط الحقل تنكسر وتلتئم بشكل متكرر، مطلقة كميات هائلة من الطاقة عبر إعادة الاتصال المغناطيسي، وهي الظاهرة ذاتها التي تسبب انفجارات الشمس لكنها هنا أقوى بكثير.
يقول الدكتور فيليبو كاميلوني: “تفتح نتائجنا احتمالاً ثورياً أن آلية بلاندفورد–زنايك ليست وحدها المسؤولة بل هناك عملية ثانية بجانبها، وهي إعادة الاتصال المغناطيسي، معاً تشكلان القوة الخارقة للنُفَث الكونية.”
ولادة الطاقة من الفوضى
تبين المحاكاة قرب المستوى الاستوائي أن خطوط الحقل المغناطيسي تتفاعل بعنف فتكوِّن فقاعات بلازمية عالية الكثافة تُسمّى بلازمويدات، والتي تتسارع حتى تقارب سرعة الضوء وتُدفع للخارج، مُشكّلة النواة الأولى للنفثات التي تمتد عبر الفضاء.
يضيف الدكتور لوتشيانو ريزولا: “بفضل المحاكاة المتقدمة، استطعنا أن نرى كيف يُستخرج جزء من الطاقة الدورانية للثقب الأسود ويحوَّل إلى طاقة إشعاعية ومادية، وهذا يفسر لمعان النوى النشطة وتسارع الجسيمات بسرعة نسبية.”
بهذا المعنى، لا يكون الثقب الأسود مجرد مقبرة للضوء، بل محرك كوني يحول الجاذبية والمغناطيسية إلى طاقة في دورة فيزيائية تكاد تنافس الحدس البشري.
الكون يعيد توزيع طاقته
ليس هذا خاصاً بـ M87* وحده، فإعادة الاتصال المغناطيسي قد تفسر سلوك أجرام أخرى مثل النيوترونية والنجوم المغناطيسية وحتى النوى المجرية النشطة (AGN)، وهي من أقوى مصادر الطاقة في الكون.
هذه النفثات لا تبقى محصورة داخل الثقوب بل تنتشر في الفضاء وتؤثر في تطور المجرات عبر طاقتها ومادتها، وتعيد توزيع الغاز والغبار وتؤثر في تشكّل النجوم ومسار تطور المجرات على مدى مليارات السنين.
يعلّق أحد أعضاء الفريق: “عندما نفهم كيف تولّد الثقوب السوداء طاقتها، نحن لا ندور حول جسد واحد بل ننظر إلى دورة الطاقة في الكون.”
فصل جديد في فهم الكون
يعكس هذا البحث تحوّلاً في أسلوب العلماء في التعامل مع الظواهر الكونية المتطرفة، فالثقوب السوداء لم تعد تُرى كمناطق “نهائية”، بل كمختبرات طبيعية للطاقة القصوى تكشف فيزياء جديدة عند حدود الفهم البشري.
مع تطور قدرات الحواسيب الفائقة قد تتاح محاكيات أكثر تعقيداً لتكشف تفاصيل إضافية حول ديناميكيات الجسيمات والمجالات المغناطيسية في قلب هذه الوحوش، وربما خلال عقود سنفهم كيف يمكن أن تؤثر طاقاتها في نسيج الكون نفسه.
يختم الدكتور ريزولا: “كل اكتشاف جديد يجعلنا ندرك أن الثقوب السوداء ليست نهايات بل بدايات لفهم أعمق للطبيعة؛ ليست فراغات تبتلع الضوء بل مصانع للمعرفة والطاقة في آن واحد.”
بعد مئة عام من الأسئلة التي حيّرت العقول، ينجح العلماء اليوم في كشف أحد أسرار الكون الأعظم: الطاقة المنبعثة من قلب الظلام ليست لغزاً أبدياً بل نتاج تفاعل بين الجاذبية والمغناطيسية في أقسى بيئة عرفها العلم.
بهذا، لم يكتفِ العلماء بحل لغز الثقب الأسود، بل خطوا خطوة نحو فهم كيف يعمل الكون ذاته من أعماق الظلام إلى أبعد نجوم الضوء.